تاريخ الإنترنت

دخلت الإنترنت تقريبا في جميع نواحي حياتنا، فالآن أنت تقرأ هذه المقالة عبر الإنترنت، تتواصل مع الآخرين عبر شبكات التواصل الإجتماعية عبر الإنترنت، تجري عملياتك البنكية عبر الإنترنت، ومع انتشار الهواتف الذكية ورخص أسعار النطاق العريض للجوال أصبحنا متصلين بالإنترنت في كل مكان وزمان تقريبا، وفي هذه المقال أعرض نبذة تاريخية عن الإنترنت.

الإنترنت هي أكبر شبكة في العالم، وهي مجموعة من الشبكات المرتبطة بعضها بالبعض، وقد تختلف هذه الشبكات في الأجهزة والبرامج المستخدمة في تركيبها، لذا تستخدم معايير وبروتوكولات موحدة لتتمكن هذه الشبكات من التواصل فيما بينها. كلمة الإنترنت Internet مأخوذة من مصطلح Inter-network الذي يعني ارتباط شبكتين ببعض.

في الواقع، لم يخطط أحدًا شبكة الإنترنت بشكلها الحالي، ولا يوجد بداية حقيقية لظهور الإنترنت، حيث أنها تطورت كما تتطور كل الأشياء عبر السنين نتيجة لتطور مجموعة مختلفة من التقنيات. الجدير بالذكر أنه لا يوجد تحكم مركزي بالإنترنت، أي أنه لا يوجد جهة معينة تتحكم بالإنترنت بشكل مطلق، ولكن توجد بعض المنظمات والمؤسسات الإشرافية، حيث تعنى كل جهة بأمر معين، إضافة إلى قيام هذه الجهات بإصدار معايير وبروتوكولات جديدة من حين لآخر. أحد أهم هذه المنظمات هي آيكان ICANN المسؤولة عن توزيع عناوين الإنترنت IP للدول والمؤسسات حول العالم، إضافة إلى توزيعها إلى أسماء النطاقات العليا مثل (com, net, co, sa, org, ae, uk وغيرها).

شكل1: شبكة الهواتف العامة
شكل1: شبكة الهواتف العامة

تعتبر شبكات التلغراف (البرقية) والهاتف هي أساس شبكة الإنترنت الحاسوبية، ففي الخمسينات الميلادية (إبان الحرب الباردة بين الإتحاد السوفيتي البائد والولايات المتحدة)، كانت جميع الاتصالات العسكرية الأميركية تستخدم شبكة الهواتف العامة، التي كانت تعمل كما في الشكل رقم 1، حيث تعتبر كل نقطة عبارة عن مكتب تبديل Exchange Office، وترتبط المكاتب الصغيرة بمكاتب مركزية أكبر، ويتم تبديل الاتصالات بداخل هذه المكاتب في ذلك الوقت بشكل يدوي.

مكتب تبديل Exchange Office في عام 1915
مكتب تبديل Exchange Office في عام 1915
internet2
شكل 2 شبكة الهواتف  في حالة تدمير أجزاء منها

طرحت وزارة الدفاع الأميركية DoD مشكلة أنه في حالة حصول حرب نووية، فإنه عند تدمير بعض نقاط الربط الأساسية، فإن نظام الاتصالات يصبح مفرقًا إلى شبكات معزولة كما في الشكل رقم 2، وفي الستينات الميلادية تعاقدت وزارة الدفاع الأميركية مع شركة RAND الرائدة في المجالات البحثية، وذلك لإيجاد حل في تطوير نظام الاتصالات ليكون أكثر صمودًا في حالة حصول حرب من هذا النوع، وكان أحد مهندسي الشركة هو بول باران Paul Baran، الذي يعتبر الأب الروحي للإنترنت.

شكل 3 الشبكة المقترحة من قبل باران والمشابهة للشبكات الحالية
شكل 3 الشبكة المقترحة من قبل باران والمشابهة للشبكات الحالية

اقترح بول شبكة موزعة كما في الشكل رقم 3، تستخدم تقنية تبديل الحزم الرقمية (Digital Packet Switching) حيث  كانت الاتصالات الهاتفية في السابق تستخدم الإشارات التماثلية (Analog)، وكان اقتراح بول أن تعمل الشبكة آليًا (بدون تدخل بشري) مما يسمح لأي من نقاط التبديل باستخدام أكثر من مسار للوصول إلى مكتب تبديل آخر. وفي هذا الرابط تجد ورقة علمية نشرها بول في عام 1964 حول هذا الموضوع.

كتب بول عدة تقارير لوزارة الدفاع الأميركية، والتي بدورها سألت شركة AT&T (أحد أكبر شركات الاتصالات في الولايات المتحدة والعالم) عن إمكانية تطبيق أفكار بول، ولكن الشركة رفضت هذه الفكرة وقالت أنها غير قابلة للتطبيق، حيث أن أحد أكبر الشركات في العالم لا ترغب أن يخبرها موظف بسيط كيف تبني شبكات اتصال، وتوقف العمل على ذلك! وهنا يتضح الفرق بين المبدأ العلمي، والمبدأ الهندسي الربحي.

آربانت ARPANET

في الخمسينات الميلادية، أنشأ رئيس الولايات المتحدة آنذاك أيزنهاورEisenhower وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة ARPA (Advanced Research Project Agency)، وكان الهدف منها أن يكون هناك منظمة واحدة بين قطاعات القوات المسلحة الأميركية (البرية والبحرية والجوية) للقيام بالأبحاث العسكرية.

في عام 1967 قام لاري روبرتس Larry Roberts العالم في آربا ARPA بالاتصال بعدة خبراء بخصوص بناء شبكة مترابطة، واقترح عليه أحد الخبراء بناء شبكة تعتمد على مبدأ تبديل الحزم Packet Switching كما في شبكة بول باران.

قام روبرتس بتبني الفكرة، وعرض ورقة علمية في إحدى ندوات ACM SIGOPS التي تختص بأنظمة التشغيل (Operating Systems) في أواخر عام 1967. المثير في الأمر أنه تم عرض ورقة أخرى في نفس المؤتمر تشرح نفس الموضوع، ولكن النظام المقترح كان مجرد تصميم وتم تطبيقه بشكل بسيط بإشراف العالم دونالد دافيس Donald Davies في معمل الفيزياء الوطني National Physical Laboratory بالمملكة المتحدة، ولم يكن نظام معمل الفيزياء الوطني نظام على مستوى المملكة المتحدة، بل كان مجرد ربط لمجموعة من الحاسبات في مبنى المعمل.

بعد عودة روبرتس، قرر بناء شبكة سميت لاحقًا آربانت ARPANET. كانت الشبكة تتكون من مجموعة من الحاسبات تسمى معالجات واجهة الرسائل (IMP (Interface Message Processors، تتصل بين بعضها البعض بسرعة 56 kbps كيلوبت بالثانية، ولتكون الشبكة ذات صلابة عالية، فكل IMP يتصل على الأقل باثنين آخرين، حيث أنه في حالة تعطل أحد هذه المعالجات، فيمكن توجيه الرسائل بشكل تلقائي لمسارات بديلة، وهذا تمامًا يشابه فكرة عمل الموجهات (Routers) الحديثة.

بداية الثورة

بدأت آربانت ARPANET بارتباط جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس UCLA ومعهد أبحاث ستانفورد SRI (التابع لجامعة ستانفورد)، وذلك عن طريق تبادل مجموعة من البيانات عبر هذه الشبكة، حيث حاول فريق من الباحثين في جامعة UCLA الدخول إلى إحدى حاسبات ستانفورد، وإرسال بعض البيانات، وذلك بكتابة “login” أي تسجيل الدخول، وينقل عن الدكتور لين كلينروك Len Kleinrock (أحد أعضاء المجموعة) أنه في الساعة العاشرة والنصف مساءً في 29 أكتوبر 1969 تم الاتصال بنجاح بينهم (UCLA) ومعهد أبحاث ستانفورد، “كتبنا حرف L” وسألنا في الهاتف “هل ترون حرف L؟”، فأجابوا “نعم نرى حرف L”، بعدها “كتبنا حرف O” وسألنا “هل ترون حرف O؟”، جاء الرد “نعم نرى حرف O”، بعدها “كتبنا حرف G، ولكن النظام تعطل”، “ومع ذلك .. بدأت ثورة”.

بعدها بشهرين، دخلت ضمن الشبكة جامعتي Utah وUCSB، ومع مرور الوقت تطورت شبكة آربانت لتشمل عدة جامعات وجهات أخرى، وأعطت وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة ARPA عدة منح للقيام بأبحاث تهتم باستخدام تقنية الأقمار الصناعية وشبكات أجهزة حزم الراديو المتنقلة (مشابهة للجوالات) في آربانت، ولأن ذلك يعني ربط شبكات من نوع مختلف، فقد ظهر نموذج TCP/IP في منتصف السبعينات الميلادية كبروتوكول موحد لتبادل البيانات في الشبكات المختلفة.

 وخلال الثمانينات الميلادية (بعد انتشار TCP/IP) اتصلت شبكات عديدة بآربانت وخاصة الشبكات المحلية LAN، وأصبح الوصول إلى جهاز معين أمرًا صعبًا، حيث كان يتطلب معرفة عنوان الإنترنت IP Address الخاص به، فتم إنشاء نظام أسماء النطاقات DNS (Domain Name System)، لتمكين الوصول إلى الأجهزة باستخدام أسماء بسيطة بدلا من الأرقام التي يصعب تذكرها.

استمر نمو شبكة آربانت سواء بعدد المستخدمين أو الشبكات المتصلة بها، وأصبح TCP/IP هو البروتوكول المعتمد الوحيد في مطلع عام 1983، ودخلت شبكات ومنظمات ودول كثيرة ضمن شبكة آربانت. وفي منتصف الثمانينات الميلادية أصبح الناس يرون مجموعة الشبكات كشبكة مترابطة Internetwork ومن هنا انطلقت تسمية إنترنت Internet، رغم أنه لم تبدأ التسمية بشكل رسمي أو بوقت محدد ومعروف، وإنما انتشر تداول الاسم بين الناس حتى أصبح المسمى الشائع.

تغير نوعية المستخدمين وظهور الويب Web

كان استخدام الإنترنت (أو آربانت) محصور تقريبا على أربع تطبيقات: البريد الإلكتروني، والأخبار، والدخول إلى الأجهزة عن بعد، إضافة إلى نقل البيانات. إضافة إلى أن استخدام الشبكة كان محصورًا على الجانب البحثي والأكاديمي والحكومي، حيث كان يصعب استخدام الشبكة حينذاك من قبل المستخدم العادي أو للأغراض العامة، حتى ظهور الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب) World Wide Web (WWW) على يد السير تيم بيرنرز لي Tim Berners-Lee في عام 1991، حيث تعتبر الثورة الكبرى في استخدام الإنترنت، مما جلب العديد من المستخدمين من غير الأكاديميين أو الباحثين إلى شبكة الإنترنت، وحصل تيم نتيجة لابتكاره على رتبة فارس من الملكة إليزابيث.

لم يغير تيم بيرنرز في البنية التحتية للشبكة، ولكن كل ما قام به هو جعل الإنترنت أسهل استخدامًا، وذلك بوضعه لفلسفة النصوص التشعبية HyperText، أي أن يكون هناك مستند يحمل نصوص وصور وغيرها من المحتويات، إضافة إلى تعليمات لربط المستند بمستند آخر عن طريق ضغط أحد الروابط، وكل ذلك باستخدام برنامج وحيد يسمى المتصفح Browser، مما يسمح للمستخدم بالتنقل بين الصفحات والمستندات بكل سهولة، حيث كان المستخدم في السابق يحتاج إلى تحميل ملف معين يبين له طريقة الوصول إلى الملفات وعناوينها وغيرها من التفاصيل التي قد تصعب على الكثيرين.

ونتيجة لسهولة الويب، فقد انتشر استخدام الإنترنت بشكل كبير، وظهرت عدة صفحات ومواقع مختصة في مجالات عدة، مثل مواقع البنوك، والمكتبات، والمواقع الرسمية، والشخصية، إضافة إلى مواقع التسلية والترفيه. وما زاد من انتشار الإنترنت بين عامة الناس هو ظهور شركات مزودي خدمات الإنترنت Internet Service Provider (ISP)، وتسهيلها لطرق الاشتراك والاتصال بالإنترنت.

استمر تطور الشبكة من حيث السرعات المقدمة، وعدد المستخدمين ونوعية الخدمات والمحتويات المتوفرة، ولكن لم يكن يضيف لمحتوى الإنترنت (أو الشبكة العنكبوتية بالأخص) إلا الذي لديه خلفية في تطوير المواقع وتصميمها عن طريق لغة HTML، وذلك حتى ظهر مفهوم الويب 2.0 WEB، الذي يعنى بمشاركة المستخدمين في محتوى المواقع، والمثال على ذلك المنتديات والشبكات الاجتماعية (مثل Facebook وTwitter) وغيرها الكثير، مما زاد محتوى الإنترنت بشكل كبير جدًا، إضافة إلى إنتشار الهواتف الذكية Smart Phones لاحقًا، والتي جعلت استخدام الإنترنت ممكن في أي مكان وزمان تقريبا.

يمكن تلخيص تاريخ الإنترنت في نقاط أساسية وهي: ظهور فكرة تبديل الحزم Packet Switching، ثم بداية شبكة آربانت ARPANET، وبعدها ظهور نموذج TCP/IP، ثم دخول المستخدمين غير الأكاديميين في الشبكة وذلك بظهور الشبكة العنكبوتية (الويب) World Wide Web، وأخيرًا بتطور الويب وظهور الويب 2.0 ومشاركة المستخدمين في الإضافة إلى محتوى الإنترنت.

معظم المقالة مقتبس من كتابي “أمن معلومات الإنترنت” مع الزميل خالد الفعيم، يمكن تحميله من هنا.

سأحاول لاحقًا الحديث عن بنية الإنترنت وتركيبها بشكل تقني.

رأيان على “تاريخ الإنترنت”

  1. اكملت قراءة كل مواضيع المدونه
    اسلوب رائع وسلس ومعلومات مبسطه تصل بصوره واضحه للقارئ البسيط

    الله يقويك كمل

التعليقات مغلقة.