تعثر البحث العلمي، خير من استمراره .. أحيانا

هنا أطرح قضية واجهتها عدة مرات في المجال الأكاديمي، وهي ظاهرة قد تكون موجودة قديما ولكنها انتشرت حديثا في الأبحاث العلمية خاصة في مجال علم البيانات، وهي نشر أبحاث تعتمد بشكل أساسي على بيانات لا يمكن الوصول لها ولا حتى جمع بيانات مشابهة لها للحصول على نتائج مشابهة بنفس المنهجية العلمية المتبعة.

غالب هذه الأبحاث تكون منشورة من قبل باحثين يعملون في شركات تقنية معلومات كبرى مثل Facebook و Twitter. بحيث يكون لديهم وصول لبيانات خاصة للمستخدمين، ومن ثم إجراء تجارب عليها والخروج بنتائج قابلة للنشر من حيث النتائج نفسها. المشكلة هنا أن هذه البيانات لا تنشر (حتى بعد إزالة هوية المستخدمين de-identification)، ولا يوجد أصلا بيانات مشابهة بحيث يتم عمل نفس الأبحاث من جديد. فمثلا موقع Facebook لا يشبهه موقع آخر أبدا لا من حيث الحجم ولا الطريقة، والبيانات الموجودة فيه لا يمكن الوصول لها لأنها مجمعة من حسابات خاصة غالبا. حتى الحسابات المفتوحة public يصعب سحب بيانات منها لوجود قيود على استخدام الواجهة البرمجية API لكثير من التطبيقات (مثل Facebook و Twitter) لسحب كميات كبيرة من المعلومات.

ما هي المشكلة هنا؟ المشكلة أولا أن هذا يخالف مبدأ أساسي في البحث العلمي، وهو التناتجية أو قابلية إعادة الإنتاج Reproducibility. بحيث يمكن للباحثين الآخرين الخروج بنفس النتائج للبحث المنشور إذا اتبعوا نفس المنهجية والبيانات والوسائل المستخدمة في البحث (أحيانا بعض التفاصيل الدقيقة جدا قد لا تكون مذكورة ولكن يمكن الوصول لها). وهذا يشكك في صحة البحث أصلا، بالإضافة إلى أنه يمنع الباحثين الآخرين من تطوير البحث والإكمال عليه وكذلك النشر العلمي. ثانيا، هذا يعطي أفضلية كبرى للشركات التجارية التي تملك هذه البيانات بنشر أبحاث علمية قد توهم البعض بأن تقنيات معينة متفوقة على أخرى بدون القدرة أصلا على اختبار ذلك. بحيث يمكن لهذه الشركات من التسويق لمنتجات فرعية لها باستخدام المجال العلمي والأكاديمي، وهذه كارثة أخلاقية علمية.

لو نظرنا لمجالات أخرى مثل الأبحاث الحيوية، لوجدنا فيها قيود كبيرة قد تحد من عملية البحث العلمي، ولكنها تضبط المجال أخلاقيا. مثلا، لو ترك البحث العلمي بدون قيود في الطب البشري مثلا، أتوقع أن تجد الكثير ممن يستفيد من رفع القيود بإجراء أبحاث مثلا على دماغ حي بأن يقطع جزء منه أو يعبث به. وهذا لا شك سيعطي نتائج جبارة تفيدنا في علم الأعصاب. هناك تجارب عديدة تاريخيا كانت مفيدة جدا في الفهم المعرفي، ولكن تم وضع قيود كبيرة بعدها للحد من الآثار السلبية المرتبطة مع هذا النوع من التجارب. لعل أشهرها تجربة سجن ستانفورد وتجربة ملقرام للإنصياع. رغم النتائج المفيدة (والمفاجئة) لهذه التجارب إلا أنها أوقفت وفرضت قوانين لاحقا لمنع السلبية المرتبطة بها مثل الضغط والأضرار النفسية الأخرى على المشاركين.

وجود هذه القيود ضروري لكي لا يستغل البحث العلمي في إيذاء الآخرين حتى لو كان ذلك على حساب التطور المعرفي. وهذا مبني بشكل أساسي على مبدأ أخلاقي أكثر من علمي.

أتمنى وضع قيود مشابهة ومنع نشر أي بحث مبني على بيانات لا يمكن الوصول لها، أولا لزيادة الشفافية العلمية، ثانيا لمنع الشركات الربحية من أن تسيطر على المجال الأكاديمي، فالهدف مختلف في المجالين، وأحيانا يوجد تعارض جوهري بينهما.

وإن (قال قائل) هذا سيوقف التطور العلمي، (قلنا) فـ”ليتوقفوا”! كم توقفت من الأبحاث في الطب وعلم النفس وغيرها!

رأيان على “تعثر البحث العلمي، خير من استمراره .. أحيانا”

  1. مقالة مشابه لمقالتك
    Enhancing reproducibility for computational methods
    http://science.sciencemag.org/content/354/6317/1240/tab-e-letters
    تطالب بتوفر البيانات لإعادة البحث أو التحقق من نتائج البحث المنشور
    كما تعلم البحوث المنشورة تعطي الطريقة و النتائج لكن لا توفر البيانات فلا يمكن التحقق من البحث

التعليقات مغلقة.